مقاطعة الدين ومجافاة الأخلاق والقيم!! (6)

من تراب الطريق (1033)

مقاطعة الدين ومجافاة الأخلاق والقيم!! (6)

نشر بجريدة المال الخميس 4/2/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

بالاقتدار على ممارسة الحياة وجدت الأحياء خاصة البشر الذين خصوا بالمزيد عن سواهم بالوعي والذاكرة وبنموهما إلى حدود لا يعرف مداها، واختصوا بالتعايش في جماعات واعية قـد تتعارف وتتبادل الخدمات والإنتاجات ومعها اللغات والعادات والعقائد والمعارف والعلوم والفنون ـ وقد تنعزل مكانًا أو تبتعد دينًا أو اعتقادًا أو خوفًا أو كبرياءً ورفعة وتعاليًا على من تراه أدنى من أن يتصل بها أو تتصل به.. وربما كان هذا ـ في عمومه ـ مبناه الظن لدى الجميع الذي بلغ أحيانًا كثيرة درجة الاعتقاد شبه الدائم برغم دوام تغير معالم الحياة والأحياء!

ولا ينبغي أن نستهين بعلاقة الذاكرة بوعي الآدمي.. فهي التي تضمن بقاء وعى الفرد خاصًا بذاته.. فهو لا يشارك ويختلط أو ينتسب لذات أو ذوات غيره، فشعور الفرد ببقاء ذاته وثباتها كامن في وعيه بفضل الذاكرة، سواء في ماضيه أو حاضره، أو في تصوره لمستقبله إلى نهاية حياته.. لكن الذاكرة قد تفلت من الوعي ما يهمله صاحبه، كما تفلت لوقت يقصر أو يطول ـ ما يصعب علينا استرجاعه لكبر السن أو نتيجة اضطراب علاقات وقدرات الذاكرة بالوعي والوعي بالذاكرة في السن المتقدمة.. وهذا يتشابه في عالمنا، ولكن يستحيل أن يتطابق لأن « الذات » بفرديتها مستحيلة التطابق بين المتعددين.

فما لدينا من ماضينا وحاضرنا مما نسميه المسلمات العامة من قيم وعقائد وأعراف ومبادئ ونظريات أو قوانين علمية ومذاهب اقتصادية وفنية وأدبية ـ كله نسبى فقط من حيث العصر والمكان والجماعة، وسيبقى نسبيًا ما بقي جنسنا.. لأنه عاش ويعيش وسيعيش في المتشابهات وبها دون المتطابقات التي قد يستخدمها في احتياجاته ومرافقه ومنافعه وأطماعه، وفي مخاوفه وخصوماته وحروبه. لأن هذه لوازم أو توابع ضرورية أو اصطلاحية للأحياء والحياة ولمواجهة الموت ومقتضياته المتعارف عليها في الزمان والمكان والوسط أو المحيط.. فغير الأحياء قد سبقت الأحياء في الوجود في هذا الكون العظيم.. سبقتهم في الوجود أشياء وأكوان وقوى وطاقات لا يبلغها الحصر.. وبقيت هذه الأشياء والقوى في الكون العظيم الهائل العظمة والسعة والعمق والضخامة والكثرة، وانتفعنا منها بقليل القليل من الماضي السحيق وحتى الآن.. نحن برغم كثرتنا وقدراتنا وذكائنا وسيادتنا وتسامينا على أحياء الأرض التي لا نقوى على حصر أنواعها وأعدادها ـ جدد وأحداث طارئون على معظم مخلوقات الله المنتشرة في البر والبحر.. ونحن الطارئين لا نبالى ولا نحصى ما نقتل وما نهلك وما ندمر ونفنى وما نعبث ونلعب في أولئك الزملاء القدماء السابقين في الخلق علينا.. لا نرى إلاّ أنهم ما جاءوا إلاّ من أجلنا ولخدمتنا ولإشباع جائعنا وكسوة عارينا وحمل مسافرنا وإخصاب أراضينا!!

لم تمتد رحمة رحمائنا ولا علم علمائنا وفن فنانينا إلى هذه المخلوقات.. إلى أولئك الزملاء القدماء المستبعدين من دنيانا، ولم يفكر عقلاؤنا في شيء كهذا.. لأن أغوار الأنانية ضاربة متفرعة داخل كل منا صغارًا وكبارًا نساءً ورجالاً!!

لقد كان نمو ذكاء البشر أسرع بكثير من نمو عواطفهم الكريمة التي ما زالت ناقصة عرجاء بلا تمييز، فامتدت قسوتنا مع ذكائنا ـ وطالت كل شيء.. لم تعد خشونتنا البالغة مقصورة على التعامل مع النبات والحيوان، بل امتدت قسوتنا لتعم علاقاتنا كبشر وتسبب ما نشاهده اليوم من الكثرة الكاثرة للفقراء والأشقياء من جنسنا في عالمنا.. قد صرنا ندرك الآن بعد تجارب طويلة، وتأمل عميق ـ أن ذكاء البشر قد نتج عنه في ذات الوقت بعض الجنوح وعدم الاتزان، ونتجت عنه أحيانًا اندفاعات منفلتة وقسوة متحجرة بلا رحمة.. هذا الاندفاع المنسلخ من الفهم المجافي للدين والضمير ـ هو الذي قاد بعض البشر إلى « العنف » واستسهال ارتياده كطريق مختصر ـ يبدو في نظر معتنقيه بلا عناء، لتحقيق الرغاب والمآرب والأغراض والشهوات.. ارتكاب الجرائم المادية والمعنوية، ما هو إلاّ جنوح فارقته الرحمة، واستعجل النتائج، واستيسر القفز إليها بلا عناء ولا مجاهدة.. لا يدرك وهو يجافي الدين والقيم والأخلاق أن هذا الطريق الجانح هو المنزلق الجارف إلى الهلاك والفناء.. تاريخ البشرية حافل بالدلالات على مآل هذا الجموح الذي كابدته البشرية، سواء في حادثات اللصوصية والقتل الفردية، أو في الاغتيالات الجماعية أو العبثية أو العشوائية.. في مذابح النازية أو شطحات الفاشية أو البلشفية، أو اغتيالات الألوية الحمراء وأشباهها، ووحشية الإرهاب العامة.. الإنسان يكاد يكون الوحيد بين المخلوقات الذي يقتل بعضه بعضًا، بينما قد لا تفعل ذلك الوحوش والضواري في الغابات.. مع غياب ومجافاة الدين والقيم توحش معظم الناس، وفقدوا العطف على الكائنات الدنيا من حيوان ونبات، وفقدوا مع جفاف ينابيع الرحمة تعاطفهم مع بنى جنسهم الذي بات يتعرض الآن ـ مع غياب القيم ومجافاة الدين إلى الهـلاك والفناء!.. واحة الدين هي الأمل والملاذ لإنقاذ البشرية من وهدة ما هي فيه الآن!

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى