في المنهج الأزهري (2)

من تراب الطريق (1227)
ـــ
الإمام الطيب
والقول الطيب (60)
نشر بجريدة المال الثلاثاء 23/11/2021
ــ
بقلم نقيب المحامين الأستاذ: رجائى عطية
فى المنهج الأزهرى
(2)
ـــ
لا يقتصر المنهج الأزهرى على ترسيخ مبدأ الحوار وشرعية الاختلاف واحترام الرأى الآخر فى دائرة المذاهب الفقهية والفكرية للمسلمين , بل يعمل الأزهر على ترسيخ ذات المبدأ فيما يتعلق بعلاقة الإسلام والمسلمين بالأديان السماوية الأخرى , ملتزمًا فى كل ذلك بالوسطية التى تحدَّث عنها القرآن الكريم : « وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا » ( البقرة 143 ) .
ويشير الإمام الطيب إلى ما أشارت التقارير الرسمية مرة إليه , من أن قوائم الحركات الإسلامية المسلحة قد خلت من أبناء الأزهر والمتخرجين فى جامعته , وما هذا إلاَّ أثرُ للمنهج الأزهرى فى التدريس وفى صياغة العقول وفى الدعوة .
ربما عز أن تجد فى شعوب دول العالم الإسلامى عدم الإنحياز إلى مذهب فقهى واحد , يرتبط به الشعب تعلّمًا وتعليمًا وتطبيقًا , وتجد فى تلك الدول نزعة إلى المذهب الذى تعتنقه , وتتحزب له , ولا تقبل غيره .
والصورة فى الشعب المصرى مختلفة , فتجد أهل السنة على المذاهب الأربعة , فهذا مالكى , وذاك شافعى , والثالث حنفى , والرابع حنبلى , يأخذ بذلك المسلمون المصريون دون تحزّب ولا غضاضة , وتجد منبع هذا النظر فى المنهج الأزهرى .
وحرصًا من الأزهر على استبعاد الأفكار والمذاهب التى تميل إلى الانغلاق الذهنى , وما ينتج عن ذلك من تشدد وغلو , وتكفير من يخالفه , فإن الأزهر تبنّى من قديم المذهب الأشعرى للإمام أبى الحسن الأشعرى المتوفى سنة 324 هـ , ويتخذه منهجًا فى تدريس العقيدة الإسلامية لطلابه وطالباته , إذ لا اختراع فى هذا المذهب السمح لعقيدة مستحدثة لم تكن على هدى النبى عليه الصلاة والسلام وصحابته , ويجتث من أصوله وفروعه نزعة التعصب والتكفير والإقصاء , بل هو المذهب الوسط بين جموح العقليين وجموح النصيين , ولذلك اتسع المذهب للمسلمين جميعًا ما داموا يشهدون بأن لا إله إلاَّ الله وأن محمدًا عبده ورسوله , ويقيمون الفرائـض التى أمر بها الإسلام .
يحفظ طلاب وطالبات الأزهر قانون هذا المذهب , وهو : « لا تُكَفِّر أحدًا من أهل القبلة , ولا يخرجك من الإيمان إلاًّ جحد ما أدخلك فيه » « أى أن تجحد وتكذب بالله أو ملائكته أو كتبه أو رسله » .
وصاحب الكبيرة فى هذا المذهب ــ مؤمن , وإن مات وهو مُصِر على إرتكابها , فأمره إلى الله , إن شاء عاقبه , وإن شاء عفا عنه .
كما يحفظ طلاب وطالبات الأزهر ــ فى مقرر مادة التوحيد فى كلية أصول الدين وكل الأقسام المناظرة فى كليات الدراسات الإسلامية والعربية المنتشرة فى ربوع مصر ـ يحفظون قول الإمام النسفى الذى فصل فصلاً حاسمًا بين الذنوب والكبائر من ناحية ، والإيمان من ناحية أخرى ، ليبين للناس أن الذنوب والكبيرة , لا تُخرج المؤمن من الإيمان , ولا تدخله فى دائرة الكفر والكفار .
وما ذهب إليه الإمام الأشعرى والأشاعرة , هو ما يقرره القرآن الكريم فى صريح آياته , فقد سمَّى مرتكب الكبيرة مؤمنًا وحكم بإيمانه فقال « وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا » ( الحجرات 9 ) , فقد وصف القرآن الطائفتين المتقاتلين بالمؤمنين ، مع أن الاقتتال والقتل من الكبائر ، كما عطف القرآن الكريم على الإيمان عطف مغايرة بينهما مرارًا وتكرارًا فى مثل قوله تعالى : « … آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ » ( البيّنة 7 ) ، وقانون اللغة يقضى بأن الشىء لا يُعطف على نفسه ، وأن « واو العطف » تقتضى أن يكون ما بعدها مغايرًا فى حقيقته لما قبلها .. فإذا توسَّطت « واو العطف » فى هذه الآيات بين الإيمان والعمل ، فلا مفَرَّ من أن يكون للإيمان معنًى وللعمل معنًى آخر ، وأن تكون حقيقة العمل خارجة عن حقيقة الإيمان ، وأن يبقى الإيمان ثابتًا رغم انتفاء العمل الصالح وثبوت العمل السَّيِّئْ الذى هو الذنب والكبيرة .
وهذا المذهب الذى اختاره الأزهر ، ونشَّأ عليه أبناء المسلمين هو الذى يُعبِّر عن رجاء الناس فى الله ، ورجاء العُصاة والمؤمنين فى عفوه ومغفرته ورحمته ، فمهما أسرف العبد على نفسه فى اقتراف المعاصى ، فإن شعوره بأنه لا يزال « مؤمنًا بالله ورسوله واليوم الآخر » يفتح أمامه آفاق الثقة فى التواب الغفور الرحيم ، بخلاف ما لو استقرّ فى وجدانه أنه كفر بسبب اقتراف الذنوب والكبائر ـ التى قلّما ينجو من اقترافها أحدٌ ـ فإنه ـ عندئذٍ ـ يمتلئ يأسًا وقُنوطًا من رحمة الله ، فيُكمِل مشوار حياته على طريق الشيطان ودَربِ الجريمة والضلال .. وقد حذَّر القرآن الكريم من سوء الفهم فى هذه القضية ، قضية الخلط بين الإيمان والعمل فقال : « قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ » ( الزمر 53 ) .

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى