بين هرم الموسيقى محمد عبد الوهاب وهرم المحاماة والسياسة مكرم عبيد

من تراب الطريق (1245)
نشر بجريدة المال الأحد 23/1/2022
ــ
بقلم نقيب المحامين الأستاذ : رجائى عطية
بين هرم الموسيقى محمد عبد الوهاب
وهرم المحاماة والسياسة مكرم عبيد
(3)
ـــــــــ
تعجبت ، وربما لُمت نفسى ، لماذا لم أعط أهمية كافية للمقال الذى حمل اسم عبد الوهاب ضمن من كتبوا عن مكرم عبيد ، فى الكتاب الذى جمعته الدكتورة / منى مكرم عبيد ، تحت عنوان : مكرم عبيد : كلمات ومواقف ، الذى نشرته الهيئة العامة للكتاب ، والذى فيه أعادت نشر « المكرميات » التى كان قد جمعها ونشرها عن مكرم عبيد ـــ المرحوم الأستاذ أحمد قاسم جودة . وقد ظننت أن ما كتبه عبد الوهاب عن مكرم هو من قبيل المجاملة ، مع أننى قرأت للدكتورة منى مكرم فى مقدمة الكتاب ، أن مكرم عبيد ــ وهو عمها ـــ كان مولعًا بالموسيقى ، وتجلى ذلك فى خطبه ، وأنه كان مولعًا بالفنون ، بل كان يغنى ويطرب للغناء ، ويغنى بصوت جميل فى سهراته الخاصة .
وجدتنى إذن أراجع نفسى ، وأعود إلى الكتاب لقراءة ما كتبه فيه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب عن مكرم عبيد ، وزاد أسفى حين قرأت ما كتبه بتركيز واهتمام ، فقد كان واجبًا أن أضمنه بما فيه الكفاية ما كتبته عن مكرم عبيد فى المقالات الخمس بالأهرام ، ولكن قلت لنفسى « ملحوقة » ــ أضمها إلى ما كتبته ، عند تجميع الكتاب الذى أنوى نشره فى ختام المقالات عن أهرامات المحاماة .
ماذا قال عبد الوهاب ؟
ظنى أنه قد صار واجبًا علىّ أن أنقل إلى القارئ العزيز نص ما كتبه موسيقار الأجيال والهرم الأكبر للموسيقى والغناء محمد عبد الوهاب ، عن الهرم الأكبر فى المحاماة ، والزعيم السياسى ، مكرم عبيد .
تحت عنوان « مكرم الفنان » ــ كتب الأستاذ محمد عبد الوهاب يقول :
« عرفت الكثيرين من رجال السياسة البارزين ولكننى لا أذكر أن علاقة وطنية وحميمة قامت بينى وبين أهل السياسة كالعلاقة التى قامت بينى وبين مكرم عبيد .
« وقد رآنى مكرم عبيد وسمعنى أول مرة دون أن أدرى . كنت فى الواقع طفلًا صغيرًا نحيلاً . ولكنى علمت فيما بعد أن وكيل نيابة إسمه مكرم عبيد سمعنى فى أحد المسارح أغنى بين فصول التمثيلية المعروضة كما كان يحدث وقتها ، وأنه اتصل ببعض ذوى النفوذ طالبًا منعى من الغناء أمام الجمهور ، حفاظًا على صوتى وأنا فى هذه السن المبكرة …
« وفى أعقاب تلك الفترة ، تجمعت مجموعة من الرجال البارزين فى المهن الكبيرة كالطب والمحاماة مع عدد من أبناء الذوات الذين تعلموا تعليمًا عاليًا رفيعًا . من محبى الفنون بوجه عام والموسيقى والغناء بوجه خاص .
« كان تجمعهم مصدره أنهم يحبون هذه الفنون ويريدون رعايتها ، وفى الوقت نفسه لم يكن سهلاً على أمثالهم متابعة حركة الغناء فى أماكنها العامة . وأسسوا أول نواة لما أصبح بعد ذلك معهد الموسيقى الشرقية . وكان منهم من يحب ويتقن العزف شخصيًا على آلة موسيقية ما . وقد اشتهر منهم كعلامة عليهم : المرحوم « مصطفى بك رضا » واتخذوا لهذه الجماعة مقرًا عند التقاء شارع حسن الأكبر فى حى عابدين بميدان باب الخلق ، حيث توجد دار الكتب . وبالتحديد فى منطقة شعبية تعرف باسم « العلواية » لأن شوارعها ، أو حواريها تتجه من باب الخلق ، صاعدة إلى قلب المنطقة .
« وكانوا أحيانًا يطلبوننا ، نحن الصبية الذين بدأنا نتعلم هناك ونتابع هواية الموسيقى والغناء ، لكى نحيى حفلة خاصة فى مقر المعهد لبعض الباشوات من الأعضاء والأصدقاء ، فخورون برعايتهم لنا . وقد دعيت مرة مع غيرى لكى نحيى سهرة ، علمت أنه سيكون فيها وكيل النيابة . وكان قد بدأ يشتهر سياسًا ، أى مكرم عبيد . فأشفقت على نفسى . ولكنه كان طيبًا وحنونًا معى وأبدى إعجابًا خاصًا بى .
« وحدث بعد ذلك أن طلب مكرم عبيد من أصدقائه إذا كان ممكنًا أن يقدم المعهد نشيدًا سريعًا تغنيه الجماهير فى مناسبة عودة سعد زغلول من المنفى . وأسرعت بتقديم لحن من جملة غنائية واحدة بسيطة تنتهى بعبارة « يحيا سعد » وطرب لها مكرم عبيد طربًا كبيرًا . وتحولت الجملة الغنائية إلى اللحن الذى تتغنى به الجماهير ، دون أن تعرف مصدره . ولكن مكرم عبيد الذى كان يعرف كان أشد الناس ابتهاجًا بنجاح النشيد وشيوعه بين الناس . وقد قال لى فيما بعد إنه أبلغ سعد باشا زغلول عن حكايته .
« وقد كان مكرم عبيد فنانًا حتى أطراف أصابعه . فى كافة مجالات التذوق الفنى وفى تعامله مع الأشياء وفى طريقه حياته . ولكن الموسيقى والغناء كانا غرامه . فهو مستمع نادر للموسيقى الشرقية والغربية وخبير بهما . وكان له صوت رخيم ميزه الملايين الذين سمعوه يخطب فى الجماهير . ومع ذلك فصوته الحقيقى كنت تسمعه حين « يدندن » بلحن شرقى قديم ، وحين كان يرتل القرآن ترتيلا .
« ولم يكن ترتيله القرآن أمرًا عابرًا . ولكنه فى معظم الوقت كنت تكتشف أن ما يتغنى به هامسًا هو آيات من القرآن . وبعد أن ينتهى من ترتيل آية . ويكتشف إنك سمعته يبدأ فى شرح بلاغتها . ويوضح أنها معجزة سماوية . ويستطرد فى الغوص فى المعنى ، وفى عبقرية ما فيها من صياغة وبلاغة وكانت له أذن حساسة فى المقارنة بين كبار المقرئين .
« وأذكر جيدًا أنه كان يتمتم كثيرًا بآية معينة . يعيد فيها ويزيد . ويقول لى : تأمل هذا الكلام المعجز . تأمل هذه الصورة السماوية . تلك كانت الآية الكريمة التى تقول « اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُور يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ » ( من سورة النور ) .

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى