بين الأصل والطبيعة والأحوال !  (1)

من تراب الطريق (985)

الإنسان والدول

بين الأصل والطبيعة والأحوال !  (1)

نشر بجريدة المال الخميس 26/11/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

هذا الخاطر من وحى ما شاهدته وعاينته وناظرته وتأملته في مكونات وأخلاق الآخذين بالثأر، في صعيدنا المصري، وفي غير الصعيد، بل فيما أتيح لي معالجته بخارج مصر . كثيرون إن لم يكن معظم الآخذين بالثأر، ناس كالناس، أخلاقهم كأخلاق الناس، وقيمهم كقيم الناس، ومساراتهم في الحياة كمسارات الناس .. منهم الخلوق حتى يقارب بسماته ما طبعت عليه الملائكة، ومنهم الوديع كالحمامة أو اليمامة، ومع ذلك تركبه « حالة »  في لحظة يغيب فيها العقل، وتطغى فيها نوازع ومحركات ودوافع وغضبات وانغلاقات واندفاعات لا تلوى على شيء، ولا تستلهم أو ترعوى بشيء مما يستقر أصيلا كامنا  في أعماق الشخصية . القاتل ثأرًا تتلبسه « حالة » تخرج به لحظتها عن عادى وطبيعة أمره، وتدفعه دفعًا قد يكون غير واع إلى ما لا يقبله طبعه وعقله . شدني تأمل هذه الصورة إلى تأمل نماذج غربية لدول سياساتها استعمارية، ومع ذلك نجد « الإنسانية » غالبة على ذات الفرد في عمله أو في حياته العادية .. شاهدت هذا ولامسته ملامسة حية في جراحة القلب التي أجريتها بهيوستن في الولايات المتحدة الأمريكية في يوليو 1990 . أفقت من التخدير لأجد نفسى بالعناية المركزة بلا قريب كما اعتدنا أو رفيق، ولكنى بين الصحو والمنام أخذت أتابع شابين أمريكيين صرفين، لا يكلان لحظة عن السهر علىّ، وعن متابعة الأجهزة المركبة، وضبطها ثانية بثانية . أحسست في غيبوبتى المتيقظة أنني بين أيدى مَلَكَين حقيقيين، ترفرف عليهما وعلىّ وعلى غرفة العناية المركزة روح ملائكية لا علاقة لها بالصلف أو بغطرسة وشطحات وازدواجية السياسة الأمريكية التي أعيت صديقهم قبل عدوهم . لمست هذا في إنسانية وحضارة معاملة الفرنسي والإنجليزي، لا أثر فيها للعقيدة الإمبراطورية السالفة، ولا للاحتلال الذي عم الدنيا . تعجبت، كيف تتغير « ذات » هذا الإنسان حين يعبر عن سياسة ومآرب دولته، ما الذي يجعل الفرنسي ابن بلد النور والحرية يرتكب أفظع الجرائم في البلدان المحتلة، ومثله الإنجليزي . ما الذي يدفع « ذات » الأمريكي الإنسان إلى تلبس ما يتلبسه في أفغانستان والعراق وفي سجن بو غريب ومعتقلات جوانتانامو .. ما الذي يحول دولة نهضت حضارتها على الحرية والديمقراطية إلى مفارقتهما مفارقة تامة في سياستها الاستعمارية كولونيالية أو إمبريالية، وكيف يتحقق هذا الانفصام فيصدر « الشخص » وتصدر« الدولة » في هذه « الحالة » أو تلك على ما لا يتفق مع مجمل « القيم » التي تعتنقها كمجتمع ويلتزمها أفراده في حيواتهم العادية . استحَضَرت هذه التساؤلات إجابة شافية وجدتها واضحة كفلق الصبح في أحاديث مروية عن رسول القرآن عليه السلام، تبين أن المسلم ـ إن كان ـ لا يسرق ولا يزنى وهو مسلم . لماذا ؟ لأنه حين سرق أو ارتكب الزنى أو هذه أو تلك من الموبقات، لم يكن بخلق وخصال المسلم، وإنما متلبسا « حالة » انتزعته من الإسلام وقيمه وخصاله وشمائله وسجاياه . فهو لم يكن مسلما في الواقع والحقيقة حين تلبسته « الحالة » التي بها ارتكب ما ارتكب وسرق أو اختلس أو زنى أو قتل !

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى