النقيب الضليع محمود بك أبو النصر أستاذ القانون والمحاماة ( 9 )

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 28/2/2022

ــــــــ

بقلم: الأستاذ/ رجائى عطية نقيب المحامين

كان الأستاذ محمود بك أبو النصر ، متفطنًا لكل الاعتبارات التى أسلفناها , واضعًا إياها فى اعتباره فى مرافعته الموضوعية العلمية الرائعة .

كنا قد وقفنا فى متابعتنا لمرافعة الأستاذ النقيب المتمكن ، عند حديثه عن العقيدة ، لا سيما حين تتمكن وترسخ وتتجذر فى فكر الإنسان وفى أعماقه .. فى توجيه آرائه وأفعاله وكأنه أسلس قيادة لها . كان لعقيدة الوردانى جذور وأسباب طفق الأستاذ محمود أبو النصر يطوف بها ــ كما رأينا ــ فى سهولة واقتدار ، ليتوقف توقفًا علميًا نفسيًّا عند أصل العقيدة وتكوينها . لم تكن هذه العقيدة عقيدة طائفية ، ولا كانت تعصبًا للإسلام ضد المسيحية والمسيحيين ، وإنما عقيدة مردها إلى رؤية وطنية خفق بها قلب الوردانى وأفكاره ، تلك الأفكار التى تشبعت بمآخذ أخذها بدافع العقيدة المتمكنة منه ــ على « سياسة » المرحوم  بطرس باشا غالى ، وليس على « ديانته » ، وممالأة آمن بحكم العقيدة أنها تمالئ الإنجليز ، ومن المؤكد أن هذا المأخذ لا ينصرف إلى مظنة ممالأة المسيحيين . فقد كان هذا أبعد ما يكون عن تفكير  وعقيدة إبراهيم ناصف الوردانى , ولا نبالغ إذا ما أبدينا أنها كانت عقيدة عدد غير قليل من الأقباط .. وقد رأينا كيف كانت هذه العقيدة متمكنة أيضًا من المحامى القبطى الأستاذ ناصيف المنقبادى المقيم فى باريس ، والتى كتب بها وعنها خطابه آنف البيان إلى جريدة « الإكلير » مؤكدًا أنهم أخذوا على المرحوم بطرس باشا غالى ما أخذه

عليه الوردانى ، وان حركة الوردانى لم تكن إلاَّ حركة وطنية مجردة ترمى إلى الترقى والحرية .

وغنى عن البيان إذن ، أن مقصد الأستاذ أبو النصر بالعقيدة ، إنما كان العقيدة بالمعنى العام ، وإن أردت التخصيص أكثر ، فأنه يعنى العقيدة بعامة التى تنمكن وتتجذر فى النفس ، حتى تتمكن منها ، فالعقائد ليست نوعًا واحدًا ، فهناك العقيدة الدينية ، ولا شك أن حديثه لم ينصرف إليها ، بل نفى أن يكون دافع الجريمة طائفيًّا دينيًّا ، وهناك العقائد الوطنية ، وأقول عقائد ، لأن للوطنية زوايا ، قد ينظر هذا أو ذاك من خلالها ، فالعقيدة الوطنية قد تختلط بالحزبية أو بالمذهبية السياسية ، أو الاقتصادية , أو الاجتماعية ، ولذلك من المهم أن نعرف أن الحديث الذى ساقه هذا المحامى العالم الضليع الفذ ، إنما كان عن العقيدة بالمعنى الوطنى العام والنفسى الذى تجذر لدى المتهم عن ما يتطلبه فى كل وطنى ، وعن عقيدته التى تجذرت لديه عن مسلك وسياسة المرحوم بطرس باشا غالى ، وهى العقيدة التى فلسف بها أخطاءه التى ارتآها من وجهة نظره فى مسألة اتفاقية السودان ، وفى مسألة مد امتياز شركة قناة السويس العالمية ، وفى مسالة إعادة قانون المطبوعات من الزوايا العامة التى تؤثر وتكتم حرية الفكر والرأى بعامة ، وفى التعبير عنه ، خلاصة ما أريد إيضاحه ، أن « العقيدة » التى يعنيها الأستاذ محمود أبو النصر فى مرافعته ، هى العقيدة التى تجذرت لدى الجانى عن شخصية ومسلك المرحوم بطرس باشا غالى ، وممالأته ـ فيما أعتقد ـ للإنجليز ولسياستهم ، ضد المصالح الوطنية , مما جعل ينمو فى داخله حتى شكلت العقيدة التى يقصدها المحامى العالم الضليع الفذ والتروى والاستقرار التى ترسخ فى العقل والوجدان فتذهب عنهما شروط سبق الإصرار .

فمن هو الوردانى الذى ارتكب هذه الجريمة ؟ مضى الأستاذ محمود أبو النصر ببيان منبته وأسرته ، وعمل والده ودراسته الثانوية فى مصر والعالية فى لوزان ولندن ، وكفالة عمه الدكتور ظيفل له لوفاة أبيه ، وعودته إلى مصر عام 1909 ، وافتتاحه صيدليته فى عابدين .

وأثبت التحقيق وشهد من عرفوا الوردانى بأنه حميد الأخلاق ، محبوب ، من أخص صفاته السكينة والحياء ، لا يكاد يُسْمع صوته إلاَّ همسًا ، وعرف عنه الميل للخير ومساعدته بما فى يده لمن يتعثر من زملائه فى أوروبا حتى لا ينقطعون عن التعليم .

واستشهد الأستاذ أبو النصر بما طلبه ــ وهو فى سجنه ــ من كتبه الموجودة فى النيابة ، ومنها المصحف الشريف ، ولزوميات المعرى ، ونهج البلاغة ، والواجب لجول سيمون ، والحرية السياسية له أيضًا ، والعقد الإجتماعى لروسو ، وكتاب الدستور الإنجليزى لبونجى فضلاً عن كتاب التاريخ العصرى . من هذا الاختيار تتضح ميول الوردانى وعقيدته فى فهم معنى الواجب ، فقد وقف مما قرأه على مبادئ سياسة الأمم وعرف ما لوطنه المحبوب عليه من الحقوق والواجبات .

وتساءل الأستاذ أبو النصر فى مرافعته : « إذا كانت هذه نشأة الرجل وتلك صفاته وأخلاقه وهذه درجة معرفته بالواجب ؛ فما الذى قاده يا ترى إلى فعله المحظور ؟ ما الذى طرأ على تلك الفطرة النقية وهذه النفس المطمئنة فأخرجها عن حيزها الصحيح وهيج فيها عوامل القتل وساقها إلى إرتكاب ذلك الأمر العظيم جهارًا ؟ ما الذى أنساه نفسه وأخته الصغيرة ووالدته المسكينة وكل ما فى هذه الحياة , وهو فى مقتبل العمر وعلى باب المستقبل الذى أخذ يبتسم فى وجوهنا البائسة كما يقول المرحوم قاسم بك أمين .

« إن هنالك قوة مؤثرة تغلبت على إرادته فسلبتها أو أضعفتها ، وهو ما نسأل عليه فى مسألة سبق الإصرار » .

abdo

صحفي بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين؛ عمل في العديد من إصدارات الصحف والمواقع المصرية، عمل بالملف السياسي لأكثر من عامين، عمل كمندوب صحفي لدى وزارتي النقل والصحة، عمل بمدينة الإنتاج الإعلامي كمعد للبرامج التلفزيونية.
زر الذهاب إلى الأعلى