النقيب الضليع محمود بك أبو النصر أستاذ القانون والمحاماة (4)

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 24/1/2022
ــــــــ
بقلم نقيب المحامين الأستاذ : رجائى عطية
الدائرة المتاحة إذن للدفاع ، فى حالة اعتراف المتهم بالواقعة المادية ، هى دائرة محصورة ، ومحكومة بأن باب الدفاع قاصر على فرعين : الأول : هل المتهم هو الذى ارتكب الواقعة ، فأحيانًا ما يكون مرتكب الواقعة محل شك يوجب البحث ومن ثم التعرض له فى الدفاع ، والثانى : معاملة المتهم حال الإدانة ، بما يسمى تفريد العقاب ، بتوقيع العقوبة المتناسبة مع الجريمة ومع الظروف ومع حالة المتهم ، النفسية ، أو العصبية ، أو الذهنية ، وما إذا كان قد تعرض لما يدفعه إلى الجريمة مسلوب الإرادة أو كالمسلوب ، وما إذا كان فى الواقعة حالة ضرورة أو سبب من أسباب الإباحة المشروعة فى القانون .
وقد كانت دائرة « مرتكب الواقعة » فى اغتيال بطرس باشا غالى ـ دائرة مغلقة ، لا محل فيها لنفىٍ أو إنكار ، فقد إعترف الجانى نفسه بإرتكابه الجريمة ، فضلاً عن ضبطه متلبسًا بها فى موقعها ، ومن ثم كانت « الدائرة الأولى » مغلقة بالضبة والمفتاح أمام الدفاع ، ولا محل للمجادلة فيها ، إلاَّ أن تكون هذه المجادلة لغوًا لا يصدر عن محامٍ حصيف فاهم لما يجب أن يكون عليه الدفاع من جديةٍ وبعدٍ عن اللغو والسفسطة .
إذن لم يكن أمام المحامى الفذ محمود بك أبو النصر الذى بدأ مرافعات الدفاع ، إلاَّ « الدائرة الثانية » ، وهى دائرة يحكمها ظرف سبق الإصرار ، فلو انتفى هذا الظرف ، لم تعد عقوبة الإعدام وجوبية ، وانفتح أو انفسح المجال للحديث فى مقدار العقوبة ، سواء فى باب تقرير العقوبات ، أم فى دائرة الرأفة ، وهى بدورها دائرة يجب البعد فيها عن اللغو والسفسطة ، فالمحامى الحصيف يلازم الموضوعية والمصداقية فيما يسوقه من أسباب لتقدير العقوبة أو للرأفة ، فغير ذلك لا يقنع ، ومهمة الدفاع هى الاقناع !
ولنعرف مدى علم وقوة حجة وبراعة الأستاذ محمود بك أبو النصر ، هذا المحامى الضليع الفذ ، ينبغى أن نستعرض وجيز الواقعة ، والظروف والملابسات التى تؤثر ايجابًا أو سلبًا ، فى نفى ظرف سبق الإصرار من عدمه ، وهى الدائرة التى لم يكن أمام محمود بك أبو النصر سواها !
الواقعة بإيجاز ، أنه حال مغادرة رئيس النظار المرحوم بطرس باشا غالى لديوان وزارة الحقانية بعد ظهيرة الأحد 21 فبراير 1910 ، يحيط به لفيف من الكبراء ومن رجال الحكومة ، منهم حسين رشدى وفتحى زغلول وعبد الخالق ثروت . ـ إذا بالجانى إبراهيم ناصف الوردانى المتربص له ، يفرغ سلاحه النارى فيه ، حيث نقل فورًا إلى المستشفى ، وبعد مشاورات بين الأطباء ، أجريت له جراحة للتعامل مع الإصابات ، إلاَّ أنها لم تفلح ، ولاقى رئيس النظار ربه .
واعترف الجانى فور القبض عليه بإرتكابه الجريمة ، وبالأسباب السابق بيانها التى دفعته إلى إغتيال رئيس النظار .
والجانى ـ إبراهيم الوردانى ، فى الثالثة والعشرين ، صيدلى يعمل بصيدليته شارع عابدين بالقاهرة ، وعرف عنه اتصاله بالحزب الوطنى القديم ؛ وعرف بأنه عصبى المزاج .
واتهمه النائب العام عبد الخالق باشا ثروت ـ بالقتل العمد مع سبق الإصرار ، وإتهم سبعة آخرين بأنهم شركاء له فى الجريمة ، وذلك بمقتضى المادة ( 194 ) من قانون العقوبات الأهلى وتعاقب عن القتل العمد مع سبق الإصرار ـ أو الترصد بالإعدام ، والمادة ( 199 ) وتعاقب الشريك بالإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة .
وأمر قاضى الإحالة ، بعد استبعاد باقى المتهمين لانتفاء الجريمة ـ أمر بإحالة الوردانى إلى محكمة الجنايات ، لمحاكمته عن القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد ، وأورد فى أسبابه أن التهمة ثابتة باعتراف المتهم أنه قتل المرحوم بطرس باشا غالى وذلك بعد الإصرار والترصد ، وأنه ضبط متلبسًا بالجناية ، وشهد عليه شهود الرؤية .
أما شهود الإثبات ، فكانوا صنفين :
الأول : الأطباء الذين اشتركوا فى علاج الحالة ، ومن منهم الذين أجروا جراحة للمجنى عليه ، وهى جراحة إختلفت الآراء حول لزومها من عدمه ، وكذا أعضاء اللجنة التى شكلتها المحكمة للبت فى الخلاف بين الأطباء عن لزوم الجراحة ، وما إذا كان هناك خطأ طبى ، على تفصيل لا نحتاج إليه فيما نعرض له .
الثانى : شهود الواقعة ، وشهود النفى . وقد استمعت المحكمة إلى أكثر من عشرة شهود ، وكان مدار سؤال الدفاع والمحكمة لهم ، حول التعرف على حالة المتهم بعامة ، وعن حالته بخاصة فى الأيام السابقة على ارتكاب الجريمة ، والتحقق مما تردد عن أنه عصبى المزاج .
كانت الصعوبة كما أسلفنا ، فى وجود عشرة أيام فاصلة بين قراره ــ فى 10 فبراير ــ ارتكاب الجريمة ، وبين تنفيذها فى 21 فبراير ، والصعوبة الثانية ، وجوب أن يتفطن الدفاع فى معالجته إلى الاعتبارات المحيطة بالواقعة وسعى الإنجليز والبعض لتأجيجها لشق الأمة .
انحصر الدفاع ــ فيما بينا سببه ــ فى استقصاء بواعث وأسباب الجريمة ، وما عساه من الظروف المحيطة بما يجدى فى نفى سبق الإصرار ، الظرف المشدد الذى يوجب بالإعدام ، أو يمكن أن تفيد ـ فى طلب استعمال الرأفة إن كان لها محل ، وهو مطلب فى ظروف الحادث ومصر ، يبدو بعيد المنال ، ويبقى على الدفاع أن ينهض بمسئولياته ، كما يوجب القانون وتوجب العدالة .

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى