الشرق فنان (6)

من تراب الطريق (1108)

الشرق فنان (6)

نشر بجريدة المال الأحد 30/5/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

الأقرب صلةً باستظهار صفة الفن للشرق، هو عقيدة المصري في الخلود.. رأى المصري النيل يفيض فتزهو الحياة، ويغيض فيذبل الزرع ويجوع الضرع.. رآه يذوى ويذبل مع الخريف والشتاء، ويفيض بالحياة ويزهر في الربيع والصيف.

أيكون الخلود مكتوبًا للماء والنبات، ويُحرم منه الإنسان ؟

هكذا رأى المصري أنه لابد يعود للحياة بعد الموت. يعود ليحيا حياة الخلود في فردوس السماء. شريطة ألاّ يقترب في حياته من الإثم والذنوب ما يحرمه من ذلك ويستبقى جسده في قبره يعانى الظمأ والجوع؛ وما هي إلاَّ أن يعد مركبًا للصالحين يعبرون بها إلى حيث الجنة الأبدية أو النعيم الأبدي، بيد أن أحدًا لا يستقل المركب إلاَّ بعد حساب يؤديه له « أوزيرس » بميزان، فيضع قلبه في كفة، ويضع ريشة خفيفة في الكفة الأخرى، حتى إذا ما تعادلت الكفتان، صارت جائزته العبور إلى جنة الخلد.

فماذا إذن تكون هذه الصورة، فيما يقول الدكتور زكى نجيب محمود، إذا لم تكن من لمسة الفنان ؟!

استمع إلى هذا الدعاء يخاطب به الإنسان قاضيه الإلهي عند لقائه ـ وهو من المجموعة الكبيرة من الأدعية والصلوات والتعاويذ التي يُطلق عليها اسم « كتاب الموتى »:

يا من يكمن في كل خفايا الحياة

ويا من يحصى كل كلمة أنطق بها

انظر ! إنك تستحي مني، وأنا ولدك،

وقلبك مفعم بالحزن الخجل،

لأني ارتكبت في دنياي من الذنوب ما يفعم القلب حزنًا وقد تماديت في شروري واعتدائي.

فعفوك اللهم عفوك

حطِّم الحواجز القائمة بيني وبينك

وامح اللهم ذنبي

لتسقط آثامي عن يمينك وشمالك

*   *   *

أو استمع إلى هذا الدعاء يخاطب به الإنسان قاضيه الإلهي ليثبت له براءته من الذنوب: سلام عليك أيها الإله العظيم، رب الصدق والعدالة ! لقد وقفت أمامك يا رب، وجيء بي لأشهد جمالك… جئت إليك أحمل قول الصدق.. إني لم أظلم الناس.. لم أظلم الفقراء.. لم أفرض على رجل حر أكثر مما فرضه هو على نفسه.. لم أهمل ولم أرتكب إثمًا بغيضًا لدى الآلهة، ولم أكن سببًا في أن يسئ السيد معاملة عبده، لم أُمِت أحدًا من الجوع، ولم أُبك أحدًا، ولم أقتل أحدًا، ولم أخدع أحدًا… لم أطفف الكيل ولم أنتزع اللبن من أفواه الرضع… أنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاهر.

هذه النظرة الروحانية، بلغت ذروتها لدى المصري القديم في شخص إخناتون، ربما كان أول إنسان في الوجود أدرك ببصيرته وحدانية الوجود… أدركها بخفقان وجدانه، لا بقياس عقله. أدركها إدراك الفنان لا إدراك العالم الذي ينشغل بالحجة والدليل والبرهان.

من ترانيمه الخالدة، التي لا تصدر إلاَّ عن شاعر فنان.

قال يخاطب الشمس رمز الإله الواحد، ومصدر النور والحياة:

« ما أجمل مطلعك في أفق السماء ! إيه يا منشئ الحياة ويا مخرج الأحياء، إنك إذا أشرقت ملأت الأرض جمالاً من جمالك، فأنت الجميل العظيم المضيء المتعال، يحيط شعاعك بالأرض وما عليها من خلائقك التي ربطتها جميعًا بآصرة من حبك فمهما نأيت غمرت الأرض بنورك، ومهما علوت ألمت أطرافك بالأرض لألاءة بإشراق الضحى.

إنك حين تغرب يكتنف الأرض ظلام كالموت، ويأوى الناس إلى مخادعهم، معصوبة رءوسهم، مسدودة خياشيمهم، لا يرى أحد منهم أحدًا… وعندئذ يخرج الأسد من عرينه وتلدغ الأفعى، وتسكن الدنيا سكونًا لا حراك فيه.

ألا ما أبهي الأرض حين تشرق أنت في الأفق فتضيئها بنورك يا مصدر النور، فتمحوا آية الظلام… ويستيقظ الناس وينشطون، فيغسلون أجسادهم ويرتدون ثيابهم، ويرفعون أيديهم تمجيدًا لطلعتك.

عندئذ تنشط الدنيا بالعمل، وتستريح الأنعام في مراعيها، ويزدهر الشجر ويورق النبات، ويرفرف الطير في مناقعه باسط الجناحين تسبيحًا بحمدك، وترقص الأغنام نشوانة ويطير كل ذي جناحين، إنها كلها لتحيا بإشراقك عليها.

وبإشراقك تقلع السفائن رائحة غادية، وتثبت الأسماك في أنهارها ويتلألأ بشعاعك البحر العظيم الأخضر.

ويا خالق الناسلة في المرأة، ويا صانع النطفة في الرجل، ويا واهب الحياة للجنين في بطن أمه، تهدهده فلا يبكى، وتغذوه وهو في الرحم، يا واهب الأنفاس ويا محرك العباد ! إنه إذا ما خرج الوليد من بطن أمه، فَرَجْت شفتيه لينطق، وسددت له حاجته.

إنك أنت واهب الحياة للفرخ في بيضته، وحافظ له حياته حتى يخرج منها مغردًا بكل قوته، ماشيًا على قدميه منذ اللحظة الأولى ».

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى