التركية العثمانية وأنهار الدماء ! (14)

التركية العثمانية وأنهار الدماء ! (14)

نشر بجريدة الأهرام الإثنين 30/11/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

كانت أوامر السلطان أو الخليفة العثماني « عبد الحميد » قد جاءت بالكف عن ترميمات القلاع والبطاريات، مع أنه ترميم من حق مصر تجهيزًا للدفاع عن أراضيها المهددة، وثغرها الذي يتربص أمامه الأسطول الإنجليزي بمدفعيته الثقيلة !

وبرغم أنه لم يُنصب مدفعٌ جديدٌ واحد، ولم تبادر أي من البطاريات المصرية بضرب أي قذيفة على الأسطول الإنجليزي، وبرغم إرسال وفد من وزير المالية ووكيل البحرية ووكيلها السابق وسكرتير مجلس الوزراء لمقابلة الأميرال « سيمور » لإيضاح أن المصريين ليسوا أعداءً للإنجليز، سدًّا لباب الذرائع، إلاَّ أن الأميرال « سيمور » الذي يعرف ما يريد، أصر على إنزال جميع المدافع من الطوابى ـ ولو أنزلوها ما تراجع، مع تسليم جميع الحصون، وأيضًا ما وراء طابية المكس من الأراضي لاتخاذها معسكرًا للجنود الإنجليز !!

كان الأميرال الإنجليزي يعرف هدفه، ويصر عليه، وهو احتلال مصر !

وبدأت مذبحة ضرب الإسكندرية، ومن مدى يطول الطوابى ولا تطول هي الأسطول الإنجليزي الضارب، وقامت البوارج والمدمرات الإنجليزية بقصف الإسكندرية يوم 11 يوليو، واستأنفت القصف الكثيف في اليوم التالي، بينما كان الخديوي مشغولاً بالانتقال إلى سراي مصطفي باشا الأكثر أمانًا له ولحاشيته، وكان من المؤسف أن أنباء ضرب الإسكندرية وتدميرها وإهلاك بنيها، قد قوبلت بالسرور في السراي الخديوية !

كشف الخديوي توفيق خبيئته في استدعاء أرسله إلى أحمد عرابي، يزعم فيه كذبًا أن ضرب الإسكندرية بالمدافع ـ كان بسبب استمرار الأعمال الجارية بالطوابى وتركيب المدافع فيها، وهو زعم كاذب، ويتجاهل في كذبه وافترائه أن ذلك بفرض حصوله جدلاً، فإنه إجراءٌ وقائي دفاعي من حق مصر على أرضها، ولا يبرر للقادم المعتدى عبر البحر أن يقصف الإسكندرية ويدمرها ويقتل سكانها !

ثم يشفع جناب الخديوي التابع للدولة العلية، هذا التجني الكاذب، يشفعه بأنه قد تلقى من الأميرال الإنجليزي ما يفيد بأنه لا توجد للدولة الإنجليزية أدنى خصومة ولا عداوة مع

« الحكومة الخديوية »، وبأنه لا يمس حقوقها ولا حقوق « الدولة العلية »، ويأمر جنابه الزعيم أحمد عرابي بصرف النظر عن جَمْع العساكر وعن كافة التجهيزات الحربية فور وصول أوامر فخامته إليه، وأن عليه الحضور حالاً إلى سراي رأس التين « لأجل إعطائه التنبيهات المقتضبة الشفاهية حسب أوامره وما استقر عليه مجلس النظار !! » .

وأشاع أتباع الخديوي في مصر، منشورًا من الباب العالي، يرمى عرابي والعرابيين بالعصيان والمروق عن طاعة السلطان .

ومن الغريب ما ذكره أحمد شفيق باشا الذي يعمل بالمعية الخديوية، بمذكراته في ربع

قرن، عن حقيقة التخاذل وما صاحبه ولازمه، فيقول إنه بعد احتلال العساكر الإنجليزية مدينة الإسكندرية من يوم 13 يوليو 1882 م « كنا ننتقد الأميرال سيمور، في أحاديثنا الخاصة، لعدم احتلالها ـ أى مدينة الإسكندرية ـ بعد تخريب طوابيها واستحكاماتها، فقد كان في وسعه لو عجل باحتلال المدينة ـ فيما يقول شفيق باشا ـ أن يحول بقواته دون أعمال الحرق والنهب !! » .

والأعجب من هذا، أن يصدر الخديوي توفيق في 14 أغسطس 1882 م / 1300 هـ منشورًا إلى السلطات في منطقة القناة، جاء فيه :

« ليكن معلومًا عند السلطات الملكية والعسكرية في منطقة قناة السويس، أن أميرال الأسطول الإنجليزي وقائد الجيوش البريطانية العام، إنما أتيا إلى مصر لإعادة النظام إليها . ومن ثم قد سمحنا لهما باحتلال جميع الأمكنة التي يريان في احتلالها ما يساعد على قمع العصيان . ومن يخالف أمرنا هذا ينزل به أشد العقاب » .!!

ولم يكتف الخديوي توفيق بهذه الكارثة، فألحقها بأخرى في ذات اليوم، حيث أصدر أمرًا آخر ـ بالترخيص لحضرة الأميرال قومندان عموم دولة بريطانيا العظمى في البحر الأبيض المتوسط، وإلى كافة الضباط الذين تحت أوامره أيضًا، أن يتخذوا كافة الوسائل التى يجدونها لازمة لمنع استحضار فحومات ومهمات حربية، وعلى طول الخط الممتد من دمياط إلى رشيد والكائن ما بين إسكندرية وبورسعيد !

والتقط القائد البريطاني العام السير جارنت ولسلى الكرة، فأذاع بدوره بيانًا في 19 أغسطس، دبجه بما شاء، وأنهاه بأنه سيتم دفع الثمن فورًا للأهالي عما تحصل عليه القوات البريطانية من المؤن، وأن سيادته يقابل بكل ارتياح ما يسديه المأمورون من المساعدة لقمع العصيان القائم ضد الجناب الخديوي !

وهكذا لم يعد الأمر أمر الغزو والاحتلال البريطاني للبلاد، وإنما عصيان من يدافعون عنها للجناب الخديوى، وكان ذلك توطئة كما سنرى لإعلان السلطان العثماني عصيان عرابي !!!

اعترف أحمد شفيق باشا بمذكراته، بأن إعلان « عصيان عرابي »، قد ساعد الإنجليز في تقصير ما أسماه فتنة، وفي الظفر باحتلال مصر، وقد صدر إعلان هذا العصيان في 6 سبتمبر 1882، وقد امتلأ هذا الإعلان بالمغالطات وقلب الحقائق، ولم يكتف الباب العالي بهذه الضربة القاصمة للقائمين بالدفاع عن البلاد لصد غزو الإنجليز، فأرسل «السلطان العثماني» ستة آلاف جندي إلى « فرضة صوداء » بكريد (كريت) لإرسالها إلى مصر عند عقد اتفاقها مع إنجلترا (أي اتفاق الخديوي الذي مالأ الإنجليز) على مشاركة هذه الجنود للقوة الإنجليزية .

وفي 22 أغسطس أصدر الخديوي إلى الدوائر الملكية والعسكرية في القطر المصري إرادة ً أخرى قال فيها إنه لما كان الغرض الوحيد من الأعمال العسكرية التي يقوم بها « السير جارنت ولسلى » هو استتباب الأمن في مصر فنحن قد صرحنا له باتخاذ التدابير العسكرية التي يرى لزومًا لاتخاذها فيجب عليكم حال وصول أمرنا هذا إليكم أن تبذلوا له المساعدات اللازمة (؟!!!) وتطيعوا أوامره (؟!!!) كما لو كانت صادرة منا (؟!!!) فمن يخضع له كأنه خضع لنا شخصيًّا (؟!!!) ومن خالفه يعد عاصيًا لنا (؟!!!)

ومن المرارة المؤسفة، حتى لا أفيض ـ أكثر !! ـ في تجرع هذه الغصص، أن تتذرع بريطانيا العظمى بعصيان « عرابي » الذي رماه به السلطان عبد الحميد، خليفة الدولة العلية العثمانية، ورماه به واليه على مصر الخديوي توفيق، مع عزله ـ ليكون ذريعةً لاحتلال مصر بحجة حماية الخديوي وتثبيت مركزه !

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى