الإسلام لم يحرِّم الفن ولا الموسيقى والغناء

الإسلام لم يحرِّم الفن ولا الموسيقى والغناء

نشر بجريدة الشروق الخميس 27/5/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

لا يمكن أن يكتمل الحديث عن موضع الفن بعامة في الإسلام.. دون استقطار حقيقة موقفه، ورفع غبارٍ أثير أو يثار حول شبهة التحريم لاقتراب الفن أحيانًا من « العبادة الوثنية ».. يقع في هذا الخلط الملبوس، من لا يفهم الفرق بين « الفن » بعامة، وبين « الوثنية »، فيتنطع لتحريم التماثيل، لا سيما التي تجسد أشخاصًا، وكذلك الرسوم والصور، ويتنطع البعض فيزعم تحريم الموسيقى والغناء، ويتطاول البعض على آثار الإنسانية عبر العصور مستبيحًا هدم هذه الآثار كما حدث لتمثال في السنغال، رغم أن ارتفاعه خمسون مترًا، ولا محل لتشبيهه بالإنسان المخلوق.

ينهي الإسلام ـ عقيدة التوحيد ـ عن الكفر وعن الإشراك بالله، ولا ينهي عن الكمال والجمال، ولا يدعو للقبح أو يقبله بل يقدر الجمال ولا ينهي عن تذوقه، ومن يتابع آيات القرآن الحكيم يجد عشرات الآيات التي قبحت الكفر وشجبته، ونهت عن الإشراك بالله وقبحته، ولكنه لن يجد آية واحدة تقبح الجمال أو تنهي عنه.

والآيات القرآنية الدالة على هذه الفوارق، بالعشرات، فالنهي كان عن الأصنام وما شابهها كالأنصاب والأزلام، مقرون بعبادتها أو التوسل بها إلى الله، وتقديم القرابين إليها واتخاذها سبيلاً للإشراك.

لا يخطئ الناظر إدراك مفهوم أن النهي عن الصنم والنصب ليس منصرفًا إلى نقش أو مثال أو هيئة، وإنما إلى الكفر الملازم لعبادتها والإشراك بها. وليس في القرآن الحكيم، ولا في السنة، تقبيح للجمال أو نهي عن تذوقه، فالجمال آية من آيات الله، تدل على بديع خلقه، وإلى ما أودعه في مخلوقاته من قدرة على محاكاة الجمال والإبداع فيه، وهو يدلى إلى الإيمان لا إلى الكفر أو الإشراك بالله، وتجد كلمة جميل متعددة في القرآن، فوصف بها الصبر في « فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ » (يوسف 18). « فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا » (يوسف 83). « فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً » (المعارج 5).. ووصف بها الصفح: « فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ » (الحجر 85).. ووصف بها التسريح بإحسان: «فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً » (الأحزاب 28). والأصنام والصور التي هدمت أو أزيلت من الكعبة يوم فتح مكة، أو ما هدم من الأصنام في شبه الجزيرة العربية، لم يكن لجمالٍ أو بهاءٍ أو حُسْن فيها، وإنما لأنها كانت تُعبد من دون الله، أو تتخذ شفاعة إليه أو إشراكًا به عز وجل. وهذه المعاني غابت وتغيب عمن يتخذون موقفًا معاديًا من الأعمال الفنية التشكيلية دون بحث أو تفرقة، فهي إن كانت تنشد جمالاً وإبداعًا فإن ذلك يستحضر الإيمان ولا يعاديه، ويدعو للتأمل وتذوق ما أودعه الله في مخلوقاته من قدرات إبداعية، ولا يدعو للكفر أو الإلحاد أو الإشراك !!

إن ما أنتجه عباقرة البشرية على مدى العصور، من تماثيل ولوحات وصور وأعمال تشكيلية بلا تجسيد أو إشراك، إبداع فنى صرف، لم يُقصد به أن يكون أصنامًا أو أنصابًا أو صورًا أو تماثيل تُعبد، أو أن تكون تكئة أو ذريعة أو وسيلة أو قربانًا للإشراك بالله عز وجل، وإنما هي إبداعات فنية تستحضر الإيمان بالله ولا تنحيه، وأول ما تلحظه من رد فعل المعجب بشيء من هذه الإبداعات أن يخرج منه تلقائيًا لفظ::« الله ».. هذا النطق بلفظ الجلالة يورى بأن قدرة الله تعالى هي أول ما يرد إلى خاطر ووجدان المعجب بهذه الإبداعات الفنية وليس الإشراك بالله.. والعياذ بالله.

والموسيقى هي ألحان السماء.. لأنها ألحان الكون الذي خلقه رب العرش العظيم، ورب السموات والعالمين.. الموسيقى أنغام صوتية في خلق الكون قبل أن تكون تواليف من صنع البشر.. الموسيقى موجودة في صوت وصفير الرياح، في خرير الماء، في حفيف الأشجار، في زقزقة العصافير، وهديل الحمام، وَدعاء الكروان، وشدو البلابل، وغناء العندليب، والشحرور، والزرياب.. هذه الطيور شدوها موسيقى، وغناؤها ألحان.

لم يكن الإنسان هو خالق ولا مبدع هذا كله، فخالقه هو الله عز وجل، والموسيقى البشرية التي من تأليف الإنسان، هي في أصلها محاكاة لبديع ما في هذا الكون من أصوات منها صوت كلمات الإنسان ذاته.. بمحاكاة تركب وتولف من إيقاعات وأوزان هذه الموسيقى الكونية تواليف وأنغامًا جديدة قد تصافح الآذان صافية عبر أدوات عزف الأنغام التي زادت وتطورت بتطور البشرية وفنون صناعة الآلات الموسيقية التي تتميز كل منها عن غيرها.

ولا يغيب عن أي عقل، أن الموسيقى واقع سماوي وإنساني رائع، لا يحذف روعته من الوجود نشاز منحرف في استخدام الموسيقى أو الغناء لإثارة الغرائز والشهوات، فلكل مقام مقال، ومحاربة الانحرافات بشتى صورها واجبة، ولكن إلغاء الطبيعة محال. وأقول الطبيعة لأن الموسيقى والنغم جزء لا يتجزأ من الطبيعة شأنها شأن ما في الكون من إبداعات متنوعة قد يخطئ بعض الناس في استغلالها، ولكنها في طبيعتها إبداعات تحمل في داخلها كل ما يترقى بالإنسان ومشاعره وروحانياته نحو الجمال والكمال.

من هنا فإن الأستاذ العقاد قد أصاب في قوله إن شبهة العبادة الوثنية تنتفي عند النظر إلى فن السماع ـ أو فن الموسيقى والغناء ـ فهو فن لا شبهة للتحريم فيه إلاَّ إذا كان ممتزجًا بالخلاعة مثيرًا للشهوات، وهنا لا ينصرف التحريم إلى الفن الجميل بل إلى الخلاعة والمجون والشهوات، ونستطيع هنا أن نضرب مثلاً بالكلمة، فالكلمة هي لغة القرآن والسنة ولغة الكتب السماوية وعيون الفكر والأدب، ولكنها قد تستخدم استخدامًا رديئًا بإثارة الغرائز والشهوات والتشجيع على الشذوذ والانحراف، فيكون التصدي لها بالحجب والتحريم واجبًا، ولكنه ينصرف إلى

« استخدامها » لا إلى الكلمة ذاتها. وهو ما يمكن أن يُقال بالنسبة للموسيقى والغناء، وقد بينت هذا باستفاضة في كتاب « الإسلام يا ناس » بالنسبة للموسيقى والغناء، فكلاهما فن راقٍ، فإذا جنح إلى خلاعة ومجون، فإن التصدي إنما يكون لهذا الانحراف لا إلى الموسيقى في ذاتها، وكذلك الغناء.

*     *     *

ولعل هذا الخاطر يرد على البال ـ فيما يسوق الأستاذ العقاد ـ بالنسبة للشعر من باب

ما ورد في القرآن الكريم عن أن الشعراء يتبعهم الغاوون وفي كل وادٍ يهيمون.

بيد أن هذه الصفة أطلقت ـ كما يبين ـ في الرد على المشركين الذين تقوَّلوا على النبي عليه السلام بالسحر تارة، وبأنه شاعر تارة أخرى.. فجاء البيان القرآني للتمييز بين النبوة والشعر، وبين الكلام الذي يهدى إلى الرشد والكلام الذي تتبعه الغواية. والدليل نص الآية القرآنية ذاتها، التي استدركت واستبعدت بصريح النص ـ الذين آمنوا وعملوا الصالحات. فتقول الآية الكريمة: « وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ » ( الشعراء 224 ـ 227 ) ـ وقد روى أن حسان بن ثابت وغيره من شعراء المسلمين ذهبوا إلى النبي عليه السلام باكين بعد نزول هذه الآية قائلين إنهم شعراء، فتلا عليهم النبي عليه السلام: « إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ » (الشعراء 227).

وكما قلت بالنسبة للفرق بين الكلمة واستخدامها، فإن ذلك يقال بالنسبة للشعر وكل فنون الكلمة، وقد ذكر الأستاذ العقاد أن المنهي عنه ليس الشعر بوصفه كلامًا موزونًا، وإنما من زاوية سوء استخدامه أو تأول البعض به على ما جاء بالقرآن الكريم موزونًا.

فليس الوزن هو المنهي عنه، وليس الشعر منهيًّا عنه، وإنما المنكر كل كلام موزونًا كان أو غير موزون انْحرفَ للغواية والتضليل.

وقد كان النبي عليه السلام يسمع الشعر ويجيزه، وكان يحفظه الخلفاء الراشدون وأئمة المسلمين، ونظمت بعض أحكام اللغة أو الفقه في بحوره الموزونة للإعانة على حفظها، كما جرى بالنسبة للنحو والصرف في « ألفية ابن مالك ».

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى