أصحاب الرسالات (٢) العجب وصيام رجب

كتب الأستاذ/ محمود سلامة المحامي

إن طريق الإصلاح طويل وشاق، مليء بالعقبات والمعوقات، مفروش بالأشواك وشظايا البلور المسمومة، يقف في منتصفه قطاع طريق يريدون المال والدم، فلا يورثن السائر فيه لخلفه شيئًا ولا يعيش ليكمل تطهيره من دنس ضباعه.

على جانبيه مدرجان، مليئان بالذين يسعى لهم للإصلاح بأياديهم حجارة كهنة الهيكل وألسنتهم سياط، لا يعنيهم أن المصلح ماضٍ لأجلهم، خطواته ثقيلة متعبة لثقل ما يكبل قدميه، فلا هم يرحمون جهده ولا يقدرون عناءه ولا يشجعونه لمثابرته، وإنما تقطع لحمه سياط ألسنتهم؛ لعجلتهم في الفوز بحربٍ لم يرموا فيها بسهم أو يضربوا فيها بسيفٍ أو يدعوا فيها بنصرٍ كأضعف ما يرام. يقذفونه بحجارتهم مدعين فيه الخطيئة أن لم يكن نوعًا ما ساحرًا ليجلب لهم الحبيب ويزوج العانس ويرد الغائب.

يقذفونه برماحهم، يهدرونها كما أهدروا حجارتهم على من يحارب لأجلهم، ويتربصون ليعرفوا لمن الغلبة، فإن كانت لعدوهم اتبعوا عدوهم، وإن كانت لمصلحهم قالوا له إنك تأكل الطعام وتمشي في الأسواق، فإن أكمل استمروا حتى قضوا عليه ووضعوا في فمه السكر وهم يشيعون مسيرته، وإن تخلى صبوا عليه اللعنات حتى يقضي.

إن المصلح صاحب الرسالة يدرك أن أكبر معوقات مسيرة إصلاحه ودرب رسالته هو من يحمل عنهم لواء حقهم ويعني بشؤونهم ويبذل حياته من أجلهم، فقطاع الطرق واضحون وإن تلونوا، متوقعون وإن أبطنوا. أما العامة غير أولي البأس المحتاجين لبطلٍ ينتصر لهم هم شوكة الظهر، وخنجر الخاصرة، وريبة تصيب الإيمان، وما يصبر صاحب الرسالة على غباء أذاهم له إلا شفقته عليهم بأنهم يأذون أنفسهم بأذيته، وأن نبل الغاية تخفف الألم الذي يصيب به المتغيى له، وأن الأمر برمته لا يعني الشخوص قدر ما يعني القيمة التي هي مناط سؤال أسرع الحاسبين، ومناط تقدير أحكم الحاكمين.

إن أصحاب الرسالات _على طول دروبهم_ قصروا على المخاطبين بالرسالة الدرب بأن عالجوا ألمه فساروا فيه عنهم، وخففوا عنهم ثقل الأمانة بأن حملوها، ولو أدرك المعنيُّ بالخطاب لحظة يكاد من يأسها يفوت سهم الخلاص في قلب المُعنَّى، ولو اطلعوا على قيامه من حريق اليأس كالعنقاء تنبعث من رمادها، ولو فهموا أن بلوغ القصد ليس بتحقيق الرغبة بقدر ما هو كائن في إخلاص السعي والجد في السير، لحملوا صاحب الرسالة على أعناقهم كلما كبوة، ولأسقوه ماء الأمل كلما أظمأته الملمات، ولألبسوه الأمان في وجه ما يلاقيه من مخاطر، أو على الأقل لكفوه سياط ألسنتهم وسهام اتهاماتهم التي نقشت عليها طبيعةُ المعوزين عبارة “لا يعجبنا العجب ولا صيام رجب”.

مسكين صاحب الرسالة الذي يرى أن الكنز في الرحلة فيقول “شرف السعي أعظم من نشوة الوصول” نبل الرسالة يعمي سريرته عن بشاعة الحقيقة، أن المطلوب نصره أشد عداوة للمصلح من المفسد، فكيف لا وهو عدو نفسه.

وإلى لقاء في مقال آنف.

زر الذهاب إلى الأعلى